انهارت أسوار الجوّ الذي هيمن فيه الإعلام الرسمي على الخطاب العام عبْر وزارة تسيطر على كلِّ مفاصله، مرتبطة ببنية رقابية تشرف على كل مفاصلها، وفقدت الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية الرسمية الناطقة باسم الحقيقة كما يراها الحزب الحاكم، أو المتخفية وراء ستار وتمارس لعبة الإعلام بذكاء، احترامها أو حضورها، فقد تغيرت المعادلة نتيجة لتطورات فرضت نفسها عالمياً مخترقة الأسوار التي شيّدتها الدكتاتوريات حول شعوبها، وفُتحت ثقوب في الأسوار لم يستطع أحد سدّها، وبدأت الأفكار تتغيّر والحساسيات تنمو، والوعي يتشكّل صانعاً جيلاً جديداً غير عاديّ، قلب المعادلات كلّها رأساً على عقب. وكان هذا مفاجئاً للأجيال الأكبر سناً، بل مربكاً ومحيّراً، فقد كان كثيرون يتحصّنون بالإيديولوجيا وبادعاءات التنوير ومحاربة الظلامية الدينية، التي لعبوا دوراً في ترسيخها عبر تبنيهم لطرق في التفكير والنظر إلى الأمور بررت استمرار الأوضاع القائمة، فجاء الجيل الجديد كي يكشف الأقنعة، ويفضح زيف الادّعاءات، ويبيّن أننا كنا جميعاً مسؤولين عن الوضع القائم، وحين هبّت رياح التغيير تبلبلت أفكارنا، واتخذنا مواقف اتّسمت بالجبن وغياب الأخلاق.
وفي خضمّ أحداث الربيع العربي الذي هبّت رياحه المفاجئة في المنطقة بيّنت بعض الدراسات والوثائق أن معظم القنوات الإعلامية مُمْتلكة، مثلها مثل ثروات الدولة، من قبل الحكام وأقربائهم ومصاهريهم، وشركائهم أو عشيقاتهم السريات أو العلنيات، وإلى ما هنالك من تشابكات قرابة أو "بزنس"، أو تقاطعات مصلحة و"سيكس" على كافة المستويات. وليست هذه الملكية خاصة بدولة دون أخرى، بل تشمل معظم الدول العربية، التي تعيش في عماء ما قبل الدولة، في برزخ لا نعرف إلى أين سيؤدي في ضوء الصراعات القائمة، والتحالفات المحبوكة، والمصالح المتضاربة أو المتقاطعة.
إنّ امتلاك القنوات بهذه الطريقة، واحتكار المجال العام الإعلامي عبر خصخصته وتحويله إلى قنوات للترويج والدعاية وجنْي الأرباح الكبرى، أو وضع يد الدولة عليه لتوجيهه في قناة معيّنة وحرفه عن التغطية الموضوعية المستقلة للأحداث عنوا من بين ما عنوه أن من يستثمر ويمتلك ويسيطر في هذا المجال يهدف إلى التحكم بالأذهان العامة عبر التلقين أو التشويه وفق ألعاب مدروسة ومخطط لها. فضلاً عن ذلك، أعاد المال "البزنسيّ"، والمال المحوّل من كونه ثروة للدولة إلى ثروة لأشخاص أو عائلات في الدولة، إلى صناعة إعلام مُسيطر عليه بطريقة أكثر تعقيداً، فالآليات المعتمدة مثلاً في تمويل صحف عربية كبرى أدّتْ إلى صناعة كتّاب للرأي تتحرك أقلامهم ضمن حدود مسموحة فحسب، كما أن هناك دولاً تهيمن على الخطاب الإعلامي والثقافي لدول أخرى عبر ضخ الأموال والاستثمارات. وهكذا وقعنا ضحية للإعلام الموجّه من قِبل الدولة أو للإعلام الممتلك من قبل أشخاص أو شركات والذي يمارس الحرية في مجال ويقمعها في مجال آخر، إلى درجة أننا نستطيع أن نعلن على الملأ بأننا لم نشهد في تاريخنا صحيفة متحررة من القيود، وإذا ما أرّخنا للإعلام العربي فإننا نستطيع القول إنه إعلام سلطات وأموال موجّهة لخدمة مآرب معيّنة. فهل من صورة غير هذه الصورة السوداء؟
ترتبط هذه الملكية المخطط لها للقنوات الإعلامية التلفزيونية والإذاعية بسيطرة صارمة على السلطة وتهدف إلى السيطرة على ذهن وخيال الجماهير عبر تصنيع ثقافة بعيدة عن الواقع، تحاكي الموروث وتعاود إنتاجه، وتروّج للإنتاج الغربي الاستهلاكي وتقبل الوضع القائم وتتصالح معه، بحيث يصبح الجمهور افتراضياً هو الآخر، مرسّخاً عبر اقتناع هذه القنوات والقيّمين عليها بأنها امتلكته كجمهور جاهز مصفّق، يستهلك سلعها الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والموسيقية والرياضية التجارية وهلمّجرّا.
أحدث التطور التكنولوجي الهائل والمتسارع بلبلة في أوساط السلطات المالكة للفضاء التواصلي، ذلك أن الإنترنت وأدواته من فيس بوك وتويتر ويوتيوب وغيرها قلب المعادلة وأسس لفضاء إعلامي جديد، لم تعد فيه الوزارة أو الشركة أو الجماعة أو العائلة المالكة هي صاحبة القرار، ولم يعد الإعلام ناطقاً باسم الحاكم أو متمحوراً حول تمجيده، وبدلاً من ذلك وُلد الصحفيّ الجديد غير الموظّف في دوائر أو لدى دول أو شركات أو جهات، بل المواطن الذي صار ناطقاً باسم نفسه، وقادراً على صناعة نشرة أخباره الخاصة المرفقة بالصور والأدلة، أو على فبركتها وفبركة الصور والأدلة، أي صار قادراً على ممارسة اللعبة التي لم تكن تمارسها سوى السلطة المالكة للقنوات والمعمّمة للخطاب والمشوّهة للحقيقة.
في هذا الفضاء الجديد، أو المجال العام الجديد، المختلف جذرياً عن منتديات هابرماس، أو جلسات تخزين القات اليمنية، أو مقاهي المثقفين والصالونات البرجوازية المدينية، صار كلّ فرد صحفياً أو شاعراً أو مفكراً أو ناشراً، وصار بإمكان أيّ شخص أن يؤسس مدونته الخاصة وموقعه الخاص، وأن ينشر كتبه وقصائده ولوحاته. دخلنا في عصر المنبر الفردي الجديد، والكتابة الجديدة المخترقة للحدود، وأعاد هذا الفضاء إنتاج صفحات الجرائد الثقافية عبر كثافة جديدة، وكشف أن ما يمكن أن يُرفض في جريدة قد يكون أفضل مما يُنشر فيها، وأنّ ما يُنشر على صفحات الفيس بوك قد لا يعدو مجرد كونه قمامة لغوية، وأنّ ما تقدمه دور النشر من كتب خاضعة للرقابة تبدو غير مثيرة بالمقارنة مع كتب أخرى مخترقة للرقابات والتابوات من جميع الأنواع، وأنّ ما تقمعه الدول العربية في مجال حرية التعبير يصدح ويغرّد ويحلّق في الفضاء الافتراضي الجديد بأجنحة واثقة خفّاقة تجوب الآفاق كلّها ويراها متصفّحو الانترنت كلّهم.
ما الذي يقدّمه لنا هذا الفضاء الجديد على المستوى الفكري والفني والشعري؟ وهل يمكن أن نتحدث عن ظاهرة ما تُدعى ظاهرة شعراء الفيس بوك؟ وهل الشعر يُسمّى انطلاقاً من المكان الذي يُنشر فيه كأن نقول إن هناك شعراء مجلات وشعراء صحافة وشعراء كاسيتات وأخيراً شعراء فيس بوك أو شعراء مغرّدين، وهل التغريد هنا هو داخل السرب أم خارجه؟
يرى البعض أنّ ثمة فوضى مهيمنة ومعايير فالتة وركاكة لغوية في كثير مما يُكتب ويُنشر، وأن صفحات الفيس بوك تشهد عودة للشعر التقليدي، وتتفوق الخواطر والانفعالات العاطفية الذاتية على النصوص الشعرية، وتهيمن وجهات النظر الطائفية والمتطرفة، ويختلط الحابل بالنابل. والسؤال الذي يجب أن يُطرح: هل من بريق فائدة في هذا السديم الافتراضي الهائل الذي تتجاور فيه كواكب متوهجة وأخرى مطفأة، المهاوي مع الذروات، والصحارى مع البحيرات؟
إن ظاهرة شعراء الفيس بوك تتقاطع مع ظواهر صحفيي الفيس بوك ورساميه ومدوّنيه وكلّ من يرمي بأفكاره وكلماته بحثاً عن قارئ يتحاور معه، وهذه الظاهرة ليست سلبية، بل صحية، ما المانع؟ لنضرب المعايير، لنخلخل كلّ شيء، لنكسر احتكار المؤسسات والسلطات لأدوات التواصل، لنتواصل بأخطائنا وبخللنا اللغوي، لنكن وزراء إعلام بلا مؤسسات، مدراء عامين بلا إدارات، سفراء بلا سفارات، مراسلين بلا صحف، كتاب مقالات بلا منابر مؤسساتية، ليضجّ المجال الافتراضي بصرخاتنا، التي حين تتسرّب تتحرر من أخطائها وتتجلى صانعة الربيع العربي، أو هادمة الربيع العربي، حيث كي تتحرر الصرخة في الفضاء الافتراضي عليها أن تخوض معركة دموية في جوّ كثيف من المعادلات والهذيانات والتجييشات والتوظيفات والاستخدامات والتلقينات التي لا تنتهي. ليكن هناك كتاب فيس بوك، وليكن هناك قراء لهم. ما المشكلة؟ إن ما أفعله هو أنني أنتقي وأغربل وأطوّر ذوقي وأصقله، آخذ ما يغنيني وأتجاهل ما يفقرني، فأنا لم أعد قارئاً عادياً، يبهره كلّ شيء، بل صرت قارئاً مصنوعاً من طبقات عديدة كأي نصٍّ عظيم، كأية قصيدة تمتلك القدرة على التحرر من صفحتها الفيس بوكية والترحّل في الدم مضيفة إلى حساسية القارئ ومغنية لها. وفي هذه الرحلة، في هذا العناق، تولد جمالية جديدة، تكتشف طعم الجمال في الكتابات المنشورة، وهكذا آخذ معي بعض القصائد، بعض الجمل، بعض الأفكار، وأترك ما تبقى، وحين أعبر ما تبقى دون أن يؤثر بي، يفقد معناه، ويُمحى. هكذا تكتسب المادة المنشورة على الفيس بوك قيمة، وهكذا يظلُّ التواصل جوهرياً لاختراق المعادلات الأدبية السائدة ومنظومات وأسوار السلطات العربية التي لم تترك لنا سوى خيار القبول والخضوع والامتثال، ولم ترْمِ لنا سوى فتات الرواتب، وفتات المنازل، وفتات ما يحتويه الوطن من ثروات، وامتلكت كلّ شيء، ولو قدرتْ لوضعت دوريات داخل الكبْلات كي تمنعنا من التواصل وفضْحها عبْر هذا المجال العظيم.